فصل: قال ابن القيم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله تعالى: {والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا وأنابوا إِلَى الله} الآية.
ما تضمنته هذه الآية الكريمة، من تحقيق معنى لا إله إلا الله، قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية، في سورة الفاتحة، في الكلام على قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5].
قوله تعالى: {الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَه}.
أظهر الأقوال في الآية الكريمة، أن المراد بالقول، ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، من وحي الكتاب والسنة، ومن إطلاق القول على القرآن قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول} [المؤمنون: 68] الآية. وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هوَ بالهزل} [الطارق: 13- 14]. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَه} أي يقدمون الأحسن، الذي هو أشد حسنًا، على الأحسن الذي هو دونه في الحسن، ويقدمون الأحسن مطلقًا على الحسن. ويدل لهذا آيات من كتاب الله.
أما الدليل على أن القرآن الأحسن المتبع. ما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم من الوحي، فهو في آيات من كتاب الله كقوله تعالى: {واتبعوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} [الزمر: 55] وقوله تعالى لموسى يأمره بالأخذ بأحسن ما في التوراة {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} [الأعراف: 145].
وأما كون القرآن فيه الأحسن والحسن، فقد دلت عليه آيات من كتابه.
واعلم أولًا أنه لا شك في أن الواجب أحسن من المندوب، وأن المندوب أحسن من مطلق الحسنن فإذا سمعوا مثلًا قوله تعالى: {وافعلوا الخير لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77] قدموا فعل الخير الواجب، على فعل الخير المندوب، وقدموا هذا الأخير، على مطلق الحسن الذي هو الجائر، ولذا كان الجزاء بخصوص الأحسن الذي هو الواجب والمندوب، لا على مطلق الحسن، كما قال تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] وقوله تعالى: {وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الزمر: 35] كما قدمنا إيضاحه في سورة النحل، في الكلام على قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، وبينا هناك دلالة على أن المباح حسن، كما قال صاحب المراقي:
ما ربنا لم ينه عنه حسن ** وغيره القبيح والمستهجن

ومن أمثلة الترغيب في الأخذ بالأحسن وأفضليته مع جواز الأخذ بالحسن قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل: 126] فالأمر في قوله: {فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} للجواز، والله لا يأمر إلا بحسن. فدل ذلك على أن الانتقام حسن، ولكن الله بين أن العفو والصبر، خير منه وأحسن في قوله: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} وأمثال ذلك كثيرة في القرآن، كقوله تعالى في إباحة الانتقام، {وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ فأولئك مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ} [الشورى: 41]، مع أنه بين أن الصبر والغفران خير منه، في قوله تعالى: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43]، وكقوله في جواز الانتقام {لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول إِلاَّ مَن ظُلِمَ} [النسا: 148] مع أنه أشار إلى أن العفو خير منه، وأنه من صفاته جل وعلا مع كمال قدرته وذلك في قوله بعده: {إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهْ أَوْ تَعْفُواْ عَن سواء فَإِنَّ الله كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء: 149]. وكقوله جل وعلا مثنيًا على من تصدق، فأبدى صدقته {إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة: 271] ثم بين أن إخفاءها وإيتاءها الفقراء، خير من إبدائها الذي مدحه بالفعل الجامد، الذي هو لإنشاء المدح الذي هو نعم، في قوله: {إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقراء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 271].
وكقوله في نصف الصداق اللازم، للزوجة بالطلاق، قبل الدخول، فنصف ما فرضتم، ولا شك أن أخذ كل واحد من الزوجين النصف حسن، لأن الله شرعه في كتابه في قوله: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقر: 237] مع أنه رغب كل واحد منهما، أن العفو للآخر عن نصفه، وبين أن ذلك أقرب للتقوى وذلك في قوله بعده {وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237].
وقد قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] ثم أرشد إلى الحسن بقوله: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله} [الشورى: 40] وقال تعالى: {والجروح قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ثم أرشد إلى الأحسن، في قوله: {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} [المائدة: 45].
واعلم أن في هذه الآية الكريمة أقوالًا غير الذي اخترنا.
منها ما روي عن ابن عباس، في معنى {فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَه} [الزمر: 18] قال هو الرجل يسمع الحسن والقبيح فيتحدث بالحسن، وينكف عن القبيح، فلا يتحدث به.
وقيل يستمعون القرآن وغيره، فيتبعون القرآن.
وقيل: إن المراد بأحسن القول لا إله إلا الله، وبعض من يقول بهذا القول: إن الآية نزلت فيمن كان يؤمن بالله قبل بعث الرسول صلى الله عليه وسلم، كزيد بن عمرو بن نفيل العدوي، وأبي الغفاري، وسلمان الفارسي، إلى غير ذلك من الأقوال.
{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)} أظهر القولين في الآية الكريمة، أنهما جملتان مستقلتان، فقوله أفمن حق عليه كلمة العذاب جملة مستقلة، لكن فيها حذفًا، حذف ما دل المقام عليه واضحن لا إشكال فيه.
والتقدير: أفمن حق عليه كلمة العذاب، تخلصه أنت منه، والاستفهام مضمن معنى النفي، أي لا تخلص أنت با نبي أحدًا سبق في علم الله أنه يعذبه من ذلك العذاب، وهذا المحذوف دل عليه قوله بعده: {أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النار} وقد قدمنا مرارًا قولي المفسرين في أداة الاستفهام المقترنة بأداة عطف كالفاء والواو وثم كقوله:
هنا: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ} وقوله: {أَفَأَنتَ تُنقِذُ}.
أما القول بأن الكلام جملة واحدة شرطية، كما قال الزمخشري: أصل الكلام: أمن حق عليه كلمة العذاب، فأنت تنقذه جملة شرطية، دخل عليها همزة الإنكار، والفاء فاء الجزاء، ثم دخلت الفاء التي في أولها للعطف على محذوف يدل عليه الخطاب، تقديره: أأنت مالك أمرهم، فمن حق عليه العذاب فأنت تنقذه، والهمزة الثانية هي الأولى كررت لتوكيد معنى الإنكار والاستبعاد ووضع من في النار موضع الضمير، فالآية على هذا الجملة واحدة، فإنه لا يظهر كل الظهور.
واعلم أن ما دلت عليه هذه الآية الكريمة قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في أول سورة يس في الكلام على قوله تعالى: {لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ} [يس: 7] الآية، وبينا دلالة الآيات على المراد بكلمة العذاب.
قوله تعالى: {لكن الذين اتقوا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّة} الآية.
ما تضمنته هذه الآية الكريمة، من وعد أهل الجنة بالغرف المبنية، ذكره جل وعلا في غير هذا الموضع، كقوله تعالى في سورة سبأ {إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فأولئك لَهُمْ جَزَاءُ الضعف بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ} [سبأ: 37]. وقوله تعالى في سورة التوبة: {وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} [التوبة: 72] الآية. وقوله تعالى في سورة الصف: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الفوز العظيم} [الصف: 12]، لأن المساكن الطيبة المذكورة في التوبة والصف صادقة بالغرف المذكورة في الزمر وسبأ، وقد قدمنا طرفًا من هذا في سورة الفرقان، في الكلام على قوله تعالى: {أولئك يُجْزَوْنَ الغرفة بِمَا صَبَرُواْ} [الفرقان: 75] الآية. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال مجد الدين الفيروزابادي:
بصيرة في البشارة:
وهى الخَبَر السّارّ.
ويقال لها: البُشْرى أَيضًا.
وبَشَرته، وأَبشرته وبشَّرته: أَخبرته بِسارّ بَسَط بَشَرةَ وجهه.
وذلك أَنَّ النَّفس إِذا سُرَّت انتشر الدّم فيها انتشارَ الماءِ في الشجر.
وبين هذه الأَلفاظ فروق؛ فإِنَّ بَشَرته عامّ، وأَبشرته نحو أَحمدته، وبشَّرته على التكثير.
وقرئَ {يَبْشُرُك} و{يُبْشِرُك} و{يُبشِّرُكِ}.
واستبشر إِذا وجد ما يسرُّه من الفرح.
والبشير المبشِّر.
والبِشَارة وردت في القرآن على اثنى عشر وجهًا، لاثنى عشر قومًا باثنتى عشرة كرامة.
الأَوّل: بشارة أَرباب الإِنابة بالهداية: {وَأَنَابُواْ إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى} إِلى قوله: {هداهُمُ اللهُ}.
الثَّانى: بشارة المخْبتين والمخلصين بالحفظ والرّعاية: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ}.
الثالث بشارة المستقيمين بثبات الولاية: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ} إِلى قوله: {وأَبْشِرُوا بِالجنَّةِ}.
الرّابع: بشارة المتَّقين بالفوز والحماية: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى}.
الخامس: بشارة الخائفين بالمغفرة، والوقاية: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} إِلى قوله: {فبشِّرْهُ}.
السّادس: بشارة المجاهدين بالرّضا والعناية: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ} إِلى قوله: {يُبشِّرُهُمْ ربُّهُمْ بِرحْمةٍ مِنْهُ ورِضْوانٍ}.
السّابع: بشارة العاصين بالرّحمة والكفاية: {نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} إِلى قوله: {ومَنْ يقْنطُ مِنْ رحْمةِ ربِّهِ}.
الثامن: بشارة المطيعين بالجنَّة والسّعادة: {وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ}.
التاسع: بشارة المؤمنين بالعطاءِ والشَّفاعة: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ}.
العاشر: بشارة المنكِرين بالعذاب والعقوبة {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وهذه استعارة ولكن تنبيهٌ أَنَّ أَسرّ ما يسمعونه الخبر بما ينالهم من العذاب.
وذلك نحو قول الشَّاعر:
تحيّةُ بَيْنِهم ضربٌ وجيع

ويصلح أن يكون ذلك مثل قوله: {تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ}.
الحادى عشر: بشارة الصّابرين بالصّلوات والرّحمة: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} إِلى قوله: {أُولئكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ}.
الثانى عشر: بشارة العارفين باللقاءِ والرّؤية: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا}. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله جلّ ذكره: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ البُشْرَى}.
طاغوت كلّ إنسانٍ نَفْسُه؛ وإنما يجتنبُ الطاغوتَ مَنْ خالف هواه، وعانَقَ رضا مولاه.
وعبادةُ النَّفْس بموافقة الهوى- وقليلٌ مَنْ لا يعبد هواه، ويجتنب حديث النَّفْسِ.
{وَأَنَابُواْ إِلَى اللَّهِ} أي رجعوا إليه في كل شيء.
قوله جلّ ذكره: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ ألَّذِينَ هَدَاهُمُ اللّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ}.
{يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ} يقتضي أن يكون الاستماع لكل شيء، ولكن الاتباع يكون للأحسن.
{أحسنه} وفيه قولان؛ أحدهما أن يكون بمعنى الحَسَن ولا تكون الهمزة للمبالغة، كما يقال مَلِكٌ أَعِزُّ أي عزيز. والثاني: الأحسن على المبالغة، والحَسَنُ ما كان مأذونًا فيه في صفة الخَلْقُ ويعْلَمُ ذلك بشهادة العلم، والأحسن هو الأَوْلَى والأصوب. ويقال الأحسن ما كان لله دون غيره، ويقال الأحسن هو ذكر الله خالصًا له. ويقال مَنْ عَرَفَ الله لا يسمع إلا بالله.
ويقيال إن للعبد دواعيَ من باطنه هي هواجسُ النفس ووساوسُ الشيطانِ وخوَاطرُ المَلَكِ وخطابُ الحقِّ يُلْقَى في الرَّوْعِ؛ فوساوسُ الشيطان تدعوا إلى المعاصي، وهواجسُ النفس تدعو إلى ثبوت الأشياء من النَّفْس وأَنَّ لها في شيءٍ نصيبًا، وخواطرُ المَلَكِ تدعو إلى الطاعاتِ والقُرَبِ، وخطابُ الحقِّ في حقائق التوحيد.
{أُوْلَئِكَ الِّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وأُوْلَئِك هُمْ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} أولئك الذين هداهم الله لتوحيده، وأولئك الذين عقولهم غير معقولة.
{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)} الذين حَقَّتْ عليهم كلمةُ العذابِ فريقان: فريقٌ حقت عليهم كلمةٌ بعذابهم في النار، وفريقٌ حقت عليهم كلمةُ العذابِ بالحجاب اليومَ، فهم اليومَ لا يخرجون عن حجاب قلوبهم، ولا يكون لهم بهذه الطريقة إيمان- وإن كانوا من أهل الإيمان.
{لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)} وَعَدَ المطيعين بالجنَّةِ- ولا محالةَ لا يُخْلِف، وَوَعَدَ التائبين بالمغفرة- ولا محالةَ يغفر لهم، وَوَعَدَ المريدين بالوجود والوصول- وإذا لم تقع لهم فترة فلا محالةَ مُصْدِقٌ وَعْدَه. اهـ.

.قال ابن القيم:

ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} منزلة السماع.
وهو اسم مصدر كالنبات وقد أمر الله به في كتابه وأثنى على أهله وأخبر أن البشرى لهم فقال تعالى 5:108 {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا} وقال 64:16 {وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} وقال 4:46 {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ} وقال 39:17، 18 {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ} وقال: 7:204 {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} وقال: 5:83 {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقّ}.
وجعل الإسماع منه والسماع منهم دليلا على علم الخير فيهم وعدم ذلك دليلا على عدم الخير فيهم فقال: 8:23 {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}.
وأخبر عن أعدائه: أنهم هجروا السماع ونهوا عنه فقال: 41:22 {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}.
فالسماع رسول الإيمان إلى القلب وداعيه ومعلمه وكم في القرآن من قوله: {أَفَلا يَسْمَعُونَ} وقال: 22: 46 {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} الآية.